نشرت وكالة "رويترز"، في تقرير استقصائي، تفاصيل جديدة حول كيفية تحويل أجهزة "البيجر" التي اشتراها حزب الله اللبناني إلى أسلحة قاتلة، كاشفة معلومات جديدة عن عملية تخريبية إسرائيلية.
لم تكن هذه الانفجارات مجرد ضربة قاسية لهذه المجموعة المدعومة من إيران، بل أثارت دهشة المراقبين وخبراء العمليات السرية في أجهزة الاستخبارات.
يذكر أنه في 17 سبتمبر (أيلول)، وفي عملية معقدة، انفجرت آلاف أجهزة "البيجر" التي اشتراها حزب الله ووزعها على أعضائه، بهدف استخدامها بدلاً من الهواتف المحمولة لتجنب مراقبة إسرائيل.
وفي يوم 18 سبتمبر، وخلال انفجار أجهزة "البيجر" وأجهزة اللاسلكي، قُتل ما لا يقل عن 39 شخصاً وأُصيب أكثر من 3400 آخرين.
وأفادت "رويترز" في تقريرها أن عملية تصميم القنابل المخفية داخل أجهزة "البيجر" استغرقت عدة سنوات.
ونقلت الوكالة عن مصدر لبناني مطلع على هذه الأجهزة، لم يُكشف عن اسمه، أن عملاء قاموا بتصميم بطاريات جديدة تحتوي على مواد متفجرة بلاستيكية وصاعق جديد، بحيث لا يمكن كشفها حتى بالأشعة السينية.
وأضافت "رويترز" أن مصممي القنابل غيّروا حجم البطاريات، وأنشأوا متاجر وصفحات إلكترونية وهمية لجعل الحجم الجديد يبدو طبيعياً، من أجل تجنب إثارة شكوك حزب الله.
ووفقاً للمصدر اللبناني والصور التي عاينها صحافيو "رويترز"، تم وضع شريحة رقيقة مربعة الشكل تحتوي على ستة غرامات من مادة "PETN" المتفجرة المضغوطة بين خليتين مستطيلتين للبطارية.
وأشار المصدر إلى أن المساحة المتبقية بين خلايا البطارية، التي لم تظهر في الصور، كانت مفصولة بشريط من مادة شديدة الاشتعال، والتي كانت تعمل كصاعق.
الصور أظهرت أن هذا المزيج المكون من ثلاث طبقات من خلايا البطارية والمواد المتفجرة والصاعق قد وُضع داخل غلاف بلاستيكي أسود وفي حاوية معدنية بحجم علبة كبريت تقريباً.
وذكرت "رويترز" نقلاً عن المصدر اللبناني واثنين من خبراء القنابل أن هذا التجميع كان غير معتاد لأنه لم يكن متصلاً بصاعق معدني تقليدي، ولم يُستخدم فيه أي معدن.
فحص الأجهزة من قبل حزب الله
وأفاد شخصان مطلعان على الأمر لوكالة "رويترز" بأن حزب الله بعد استلامه لأجهزة "البيجر" في فبراير (شباط)، فحصها باستخدام ماسحات أمنية في المطار للتأكد من عدم احتوائها على متفجرات، لكن لم يتم الإبلاغ عن أي شيء مريب.
وقال خبراء القنابل الذين عرضت عليهم "رويترز" تصميم البيجر المفخخ إن الأجهزة كانت مصممة على الأرجح لتوليد شرارة كافية لتحفيز المواد المتفجرة البلاستيكية "PETN"
وذكر خبيران في البطاريات أن المواد المتفجرة والتعبئة قد شغلت حوالي ثلث حجم البطارية، ما جعل سعة البطارية أقل بكثير مما كان متوقعاً مقارنة بوزنها البالغ 35 غراماً.
وبحسب المصدر اللبناني، اكتشف حزب الله في مرحلة ما أن بطاريات أجهزة البيجر كانت تنفد بسرعة أكبر من المتوقع، لكن يبدو أن هذه المسألة لم تثر مخاوف أمنية كبيرة، حيث استمر الحزب في توزيع البيجر على أعضائه حتى ساعات قليلة قبل الهجوم.
وفي 17 سبتمبر، انفجرت آلاف أجهزة "البيجر" بشكل متزامن في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي مواقع أخرى تابعة لحزب الله. وفي معظم الحالات، انفجرت الأجهزة بعد إصدارها إشارة صوتية تدل على تلقي رسالة جديدة.
شهود عيان قالوا لـ"رويترز" إن العديد من الضحايا الذين نُقلوا إلى المستشفيات كانوا مصابين بجروح في العين، أو تعرضوا لبتر في أصابعهم، أو لجروح عميقة في منطقة البطن.
ونقلت "رويترز" عن مصدرين أمنيين غربيين أن جهاز الموساد الإسرائيلي هو المسؤول عن تفجيرات أجهزة البيجر وأجهزة اللاسلكي.
ولم تتمكن "رويترز" من تحديد مكان تصنيع هذه الأجهزة. ولم يرد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يشرف على الموساد، على طلبات التعليق.
كما امتنعت وزارة الإعلام اللبنانية والمتحدث باسم حزب الله عن التعليق على هذه القضية.
غالانت يشيد بإنجازات الموساد رغم عدم تأكيد أو نفي إسرائيل
لم تؤكد إسرائيل تورطها في الهجوم على أجهزة الاستدعاء التابعة لحزب الله، ولم تنفه، إلا أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أشاد بنتائج الموساد "المذهلة" بعد يوم واحد من الانفجارات، مما دفع العديد إلى اعتبار تصريحاته تأكيداً ضمنياً لدور الموساد في العملية.
وفي المقابل، أكد مسؤولون أميركيون أنهم لم يكونوا على علم مسبق بهذه العملية.
الحلقة الضعيفة
بدت بطاريات أجهزة البيجر مشابهة لبطاريات الليثيوم أيون القياسية المستخدمة في العديد من الأجهزة الإلكترونية. ومع ذلك، كانت البطارية المعنونة بـ"LI-BT783" تحتوي على مشكلة بارزة: لم يكن هناك نموذج مشابه لها في السوق.
وللتغلب على هذا الأمر، أنشأ العملاء الإسرائيليون خلفية وهمية لحل هذه المعضلة. ووفقاً لضابط استخبارات إسرائيلي سابق لم يشارك في العملية، فإن حزب الله يتبع إجراءات صارمة للتحقق مما يشتريه.
وأضاف الضابط السابق، الذي رفض الكشف عن اسمه: "يجب أن تضمن أنه إذا قاموا بفحص الأجهزة، سيجدون شيئاً. عدم العثور على شيء يعتبر علامة سيئة".
لهذا السبب، خدع العملاء الإسرائيليون حزب الله وصمموا نموذجاً مخصصاً يحمل اسم "AR-924" تحت العلامة التجارية "Gold Apollo"، وهي علامة تجارية مشهورة في تايوان.
وبعد يوم من الانفجارات، قال هسو تشينغ كوانغ، رئيس شركة "Gold Apollo"، للصحافيين إنه قبل حوالي ثلاث سنوات، اتصلت به موظفة سابق في الشركة تدعى "تيريزا وو" ومديرها "توم" لمناقشة الحصول على ترخيص.
وأوضح هسو أنه لم يكن لديه معلومات كافية عن توم، لكنه منحهما الحق في تصميم منتجاتهم وطرحها في السوق تحت العلامة التجارية "Gold Apollo".
ولم تتمكن "رويترز" من تحديد هوية "توم" أو التوصل إلى معرفة إذا كان الاثنان يعلمان بالتعاون مع إسرائيل أم لا.
وأوضح هسو أنه عندما رأى نموذج البيجر "AR-924"، لم يكن منبهرًا به، لكنه أضاف صوراً ومواصفات المنتج إلى موقع الشركة على الإنترنت لمساعدته في الحصول على شهرة ومصداقية. ومع ذلك، لم يكن من الممكن شراء النموذج مباشرة من الموقع.
وأكد هسو أنه لا يعلم شيئاً عن قدرات البيجر القاتلة أو العملية ضد حزب الله، واصفاً شركته بأنها ضحية لهذه المؤامرة.
"أنا أعرف هذا المنتج"
في سبتمبر 2023، أُضيفت معلومات وصور لنموذج البيجر "AR-924" وبطاريته إلى موقع apollosystemshk.com، الذي يدّعي أنه يحمل ترخيص توزيع منتجات "Gold Apollo"
وأشار الموقع إلى عنوان في هونغ كونغ لشركة تدعى "Apollo Systems HK"، إلا أن الشركة لم تكن مسجلة في هذا العنوان أو في سجلات الشركات في هونغ كونغ.
ومع ذلك، تم إدراج هذا الموقع الإلكتروني في صفحة "فيسبوك" الخاصة بـ"وو"، التاجر التايواني، وفي السجلات العامة عندما قامت بتسجيل شركة باسم "Apollo Systems" في تايبيه أوائل هذا العام.
وكان جزء من الموقع المخصص للبطارية "LI-BT783" أشار إلى الأداء الفائق للبطارية. وأوضح أن هذه البطارية تدوم لمدة 85 يوماً وتُشحن عبر كابل USB، بعكس البطاريات ذات الاستخدام الواحد التي كانت تغذي "البيجرات" القديمة.
وأوضحت "رويترز" كيف أن صفحات الإنترنت الوهمية التي تم إنشاؤها لترويج هذه البطاريات، لم تقتصر على الدعاية، بل استقطبت أشخاصاً أشادوا بها وادّعوا معرفتها، على الرغم من أنها لم تكن متاحة للشراء.
ووفقاً لقول ضابط استخبارات إسرائيلي سابق واثنين من ضباط الأمن الغربيين، فإن هذا الموقع الإلكتروني والمتاجر الافتراضية والمناقشات حول البطارية تُعتبر جزءاً من عملية خداع.
وأشارت "رويترز" إلى أن هذه الصفحات قد أزيلت بعد انفجارات "البيجرات"، لكن نسخها الأرشيفية لا تزال متاحة.
تحقيقات حزب الله وأثر الضربة الجوية
بعد شراء أجهزة الاستدعاء، أعلن قادة حزب الله عن فتح تحقيق داخلي لفهم كيفية حدوث الاختراق الأمني وتحديد الثغرات المحتملة.
وكانت "رويترز" قد أفادت سابقاً بأن حزب الله لجأ إلى استخدام أجهزة "البيجر" بعدما اكتشف في بداية العام أن اتصالاته الهاتفية أصبحت غير آمنة بسبب التنصت الإسرائيلي.
وأشار مصدر مطلع إلى أن التحقيقات الداخلية ساعدت في كشف كيفية استغلال العملاء الإسرائيليين لتكتيك المبيعات العدوانية لإقناع مدير المشتريات في حزب الله باختيار نموذج "AR-924" .
وقدم البائع سعراً منخفضاً للغاية لهذه الأجهزة، ثم استمر في تخفيض السعر حتى اتخذ حزب الله قراراً بشرائها.
ورغم أن التحقيقات الداخلية ما زالت مستمرة، فإنها تعرضت لانتكاسة في 28 سبتمبر عندما قُتل نبيل قاووق، القيادي البارز في حزب الله والمكلف بقيادة التحقيقات، في غارة جوية إسرائيلية بعد 11 يوماً من انفجار أجهزة "البيجر".